فى محاولة جاهدة لإقناع ابنتى ذات التسع سنوات بأن جهاز المحمول الذكى جهاز متعدد المهام، وأننا لا نستطيع التعامل مع كل تلك المهام فى آن واحد فى مثل مرحلتها العمرية؛ فقد قررنا معًا تأجيل استخدام جهاز المحمول الذكى بوصفه جهازًا واحدًا يستطيع القيام بما كان يقوم به ستة أجهزة منفصلة فى الماضى. فهو كاميرا وراديو وتليفزيون وكمبيوتر وتليفون وإنترنت. واتفقنا بعد نقاش طويل، أن نتعامل معه بوصفه ثلاثة أجهزة فقط (تليفون وكاميرا وراديو).
باختصار فإنها لن تحصل على باقة إنترنت أو على كلمة السر للإنترنت اللاسلكى بالمنزل. كما أنها لن تحمله إلى أى مكان، فهو جهاز محمول لكنه لن يخرج من البيت.
هكذا قيدنا مهمات هذا الجهاز العنكبوتى الذى دخل حياتنا؛ فإذا به كلما أضاف إليها ميزة تواصل بين الناس أضاف معها آفة تباعد بينهم؛ وكلما سهل علينا المهمات أضاف إلينا أعباء جديدة.
• • •
ابنتى فى مرحلة الطفولة بينما تداهمها أعراض المراهقة المبكرة التى ابتلى بها أطفال هذا العالم بسبب تأثير ثورة تكنولوجيا المعلومات. يظن بعض الآباء والأمهات أنه لا سبيل لتحدى الأولاد فى معركة التكنولوجيا. فهم أبناء وبنات عصرهم وهم الأقدر على التعامل معه. بينما يحذر المتخصصون من خطورة ذلك على الصحة النفسية والعقلية لأطفال فى مقتبل العمر.
بعض الشرائح المجتمعية لا تستطيع أن تحصل لأطفالها على جهاز محمول ذكى مستقل؛ لكنها لا تستطيع أيضًا أن تمنعهم من السطو على أجهزتهم الشخصية. إنهم يتفوقون على والديهم فى التعامل معها بسرعة وسهولة وفى استيعابهم لتعقيداتها؛ خاصة إذا عبروا عن تعاملهم مع خصائص الجهاز باللغة الإنجليزية التى أمضى والداهم سنوات التعليم المدرسى فى تعلم أساسياتها. يصاب الوالدان بالدهشة بل بالانبهار؛ ما يؤكد لدى الأطفال شعور بالأفضلية والاستحقاق إلا أنه استحقاق زائف فى حقيقة الأمر. وبين مجاهدتهم فى تأخير حصولهم على الجهاز والتساهل معهم فى ذلك؛ يتسلل الجهاز إليهم برغم كل شىء.. فماذا يعنى ذلك؟
يعنى أننا أمام أطفال يحصلون على المعلومة قبل أن يحصلوا على التعليم. يعرفون كيفية الحصول على ما يريدون بأكثر من طريقة ولكن بغير مرشد أو معلم أو قدوة. يتحاكمون إلى جوجل أولا وقبل كل شىء، ثم يأتون إليك يختبرون مدى صحة وقيمة وتميز ما تقدمه إليهم. يرددون الحكمة بأفواههم؛ بينما تسخر منها عقولهم الغضة التى لم تمر بعد بأى تجربة. يحملون بداخلهم ثقة تتعاظم بما يملكون من أدوات فيندفعون إلى التجريب قبل استكمال البحث وحساب المخاطر. يتطلعون إلى آفاق العلم بينما يفتقرون بعد إلى حدود اللياقة والأدب.
إنهم وإن كانوا صغارًا لا ينفكون عن إدهاشك فى سرعة إبداء الرأى وفى قدرتهم على تمييز الشىء الجيد من الردىء، بينما لا يزالون يتقلبون فى آرائهم وأفكارهم من النقيض إلى النقيض إلى درجة أنهم يواجهون مشكلات نفسية وعصبية تفوق قدرتهم على الاحتمال.
• • •
من يستطيع التعامل والتعايش مع هكذا طفولة؟ لا ريب أنها سرعان ما تأفل! تلك المرحلة الثمينة من عمر الإنسان لتحل محلها سريعا مرحلة (المراهقة المستمرة). إن النضج الذى كان ولا بد أن يحصل عليه الإنسان إذا بلغ أشده، وبلغ أربعين سنة أصبح هو الآخر يواجه تحديات مختلفة ما يجعله غاية يصعب إدراكها فى حينها.
يكبر جيل جوجل ولكنهم لن يصلوا إلى مرحلة النضج الإنسانى بشكل تلقائى فطرى. هكذا ينشأ بناتنا وأبناؤنا من جيل جوجل بانفرادية بحتة؛ كتطبيقات جهاز المحمول. لا يجمعك بهم وإن تعايشتم معا فى أسرة واحدة، أى شىء مشترك؛ إلا إذا بحثتم معا عليه جاهدين.
يحتاج الأمر منك إلى التعلم؛ فتربية هذا الجيل ليست مهمة تلقائية سهلة مثلما تربى أجيال كثيرة فى الماضى. إنها تحد مستمر لوجودك كمرب فى حياتهم التى جاءوا إليها، وقد وجدوا لكل عمل إنسانى بديلًا تستطيع الآلة القيام به.
يحتاج الأمر أيضًا إلى معرفة عميقة بذاتك ومعرفة حقيقية بأفكارك ومعتقداتك وفلسفتك فى الحياة. تلك الرحلة التى كانت قد تستغرق سنوات فى الماضى من الأب أو الأم لتحديد ملامحها، بينما يكبر أطفالهما ببطء مما يسمح لهم بكثير من الوقت للاستمتاع برحلتهما تلك؛ أصبحت الآن مشوارًا قصيرًا! عليك أن تنجز هذه المهمة فى أسرع وقت؛ فلن يسمح لك جيل جوجل أن توجههم وترشدهم وأنت ما زلت تعانى من تناقضاتك وتتخبط فى تجارب تختبر فيها صحة أفكارك ومعتقداتك.
إن تأخرك يعنى إنهم هم من سيرشدونك. ولا ضير فى ذلك؛ إذ أن تربية الأطفال عملية تبادلية فى الأساس فيما بينهم وبين والديهم. لكن إذا ما تولوا هم مهمة إرشادك؛ فعليك أن تفكر فى خطورة ما هم عليه بغير تأثير لك فى حياتهم مهما اجتمعت بهم تحت سقف واحد. فقد لا يكون لوجودك أى أثر يذكر فى حياتهم. تلك هى الحقيقة الصادمة!
وإذا وضعنا فى اعتبار الوالدين ضرورة تعلم أصول وقواعد التربية وأهمية المعرفة بالذات وبالمعتقدات، فإن الحب سيظل اللبنة الأساسية التى عليها ينشأ الإنسان. ولكن الحب الذى يهمنا فى مراحل المراهقة (طويلة الأمد) هو الحب الواعى. وهو يختلف عن الحب العاطفى الذى يقدمه الوالدان لأطفالهما فى طفولتهم المبكرة.
• • •
يحضرنى فى هذا السياق مشهد من فيلم المصير الذى يجمع بين ابن رشد (نور الشريف) وعبدالله ابن الخليفة المنصور (هانى سلامة) وهو يجادله فى ما نسميه غرور المعرفة الظنية وتواضع المعرفة الحقيقة؛ قائلا له: تحفظلى بيتين شعر تبقى شاعر.. تحفظلى آيتين تبقى عالم! تعرف إيه عن الطب؟ عن حركة الكون؛ عن الرياضيات؛ عن الكيمياء؛ عن الفلسفة؟ تعرف إيه عن الحب؟ عن العدل؟
إنه مشهد عن الحب الواعى الذى يبدو وكأنه الشمعة التى إذا أضاءت ظهرت الحقيقة أمام ناظريها. فى عصر جوجل تتجلى هذه الجدلية التى تناولها هذا المشهد الهام من الفيلم. فسيبدو لك فى كثير من الأحيان أن ثقة أولادنا المتزايدة فى أنفسهم بما تحصلوا عليه من معلومات نوع من الغرور المعرفى بينما تبدو لهم ثقتك فيما تعرف نوعًا من الجمود والضلال.
فإما أن تتساوى معهم فى غرور المعرفة الظنية ما يجعلكما فى صراع دائم؛ قد تتحاكمان فيه إلى شات جى بى تى مثلًا! أو تجتمعان معًا فى رحاب المعرفة الحقيقية بآفاقها الواسعة، حيث جوجل أداة من أدواتها وليست قائدها ومرشدها. ولعل النجاة تكون فى الخيار الثانى إذا ما جمعكما رحلة من التعلم المستمر وتأصيل للمعرفة دونما تخل عن الحب والتقدير المتبادل.